الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أرسله بالعلم النافع والعمل الصالح ليظهره على الدين كله وأعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر شهادة له بصدقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وملكه وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بلغ ما أنزل إليه من ربه على أكمل وجه وأتمه صلى الله عليه وعلى آله وعلى آله وأصحابه ومن تبعه في هديه وسلم تسليما كثيرا

ٌقصة أصحاب الأخدود

images

كان هناك ملك
وكان له ساحر
فلما كبر الساحر
قال للملك إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر .
فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر
وكان بين الملك وبين الساحر راهب
فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه
وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال : ما حبسك
وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك
فشكا ذلك إلى الراهب
فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر .
قال : فبينا هو ذات يوم ، إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا
فقال : اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب
قال : فأخذ حجرا
فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ، ورماها فقتلها ،
ومضى فأخبر الراهب بذلك فقال : أي بني أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي .
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ، وسائر الأدواء ويشفيهم .
وكان هناك جليس للملك فعمي
فسمع جليس الملك به فأتاه بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا أجمع .
فقال : ما أنا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله عز وجل فإن آمنت به ، ودعوت الله شفاك ، فآمن فدعا الله فشفاه
ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس
فقال له الملك : يا فلان من رد عليك بصرك ؟
فقال الجليس : ربي
قال : أنا
قال الجليس: لا . ربي وربك الله .
قال : ولك رب غيري ؟
قال الجليس : نعم ربي وربك الله .
فلم يزل يعذبه ،حتى دل على الغلام
فأتي به
فقال : أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء
قال الغلام : ما أشفي أنا أحدا إنما يشفي الله عز وجل
قال الملك: أنا ؟
قال الغلام: لا
قال الملك : أولك رب غيري ؟
قال الغلام : ربي وربك الله
فعذبه الملك ، ولم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فأتي بالراهب
فقال له الملك: ارجع عن دينك فأبى
فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه
وقال للأعمى (جليس الملك): ارجع عن دينك فأبى ،
فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه .
وقال للغلام : ارجع عن دينك فأبى
فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا
وقال الملك : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه
فذهبوا به فلما علوا الجبل
قال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت
فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون
وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك
فقال الملك : ما فعل أصحابك فقال : كفانيهم الله
فبعث به مع نفر في سفينه فقال : إذا توسطتم في البحر فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه في البحر ، فلججوا به البحر
فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت
فغرقوا أجمعون
وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك فقال : كفانيهم الله .
ثم قال الغلام للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني ، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي .
قال الملك : وما هو ؟
قال الغلام : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي ، ثم قل : بسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني .
ففعل الملك ذلك ووضع السهم في القوس ، ثم رماه وقال : بسم الله رب الغلام فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات
فقال الناس : آمنا برب الغلام
فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك
قد آمن الناس كلهم فأمر بحفر الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه ، وإلا فألقوه فيها .
وقال : فكانوا يتعادون فيها ، ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار فأنطق الله الرضيع فقال : اصبري يا أماه فإنك على الحق
فرضي الناس بالتضحية بالنفس في سبيل الله ، على الرغم من أنه لم يمض على إيمانهم إلا ساعات قلائل بعد الذي عاينوه من دلائل الإيمان ، وشواهد اليقين ، وأنطق الله الرضيع عندما تقاعست أمه عن اقتحام النار، فكانت آية ثبت الله بها قلوب المؤمنين .
فائدة
إن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار الحقيقي هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن النصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة ، وأن الحياة الدنيا وما فيها من المتاعب والآلام ليست هي الميزان الذي يوزن به الربح والخسارة ، لقد انتصر هذا الغلام عدة مرات في معركة واحدة وموقف واحد ، انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور ، وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ، متخطيا جميع العقبات ، ومستعليا على الشهوات ، ومتاع الحياة الدنيا ، وانتصر عندما تحقق ما كان يدعو إليه وما قدم نفسه من أجله ، وانتصر عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، وانتصر عندما خلد الله ذكره في العالمين ، وجعل له لسان صدق في الآخرين ، صحيح أن الناس كلهم يموتون ، ولكنهم لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار .