الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أرسله بالعلم النافع والعمل الصالح ليظهره على الدين كله وأعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر شهادة له بصدقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وملكه وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بلغ ما أنزل إليه من ربه على أكمل وجه وأتمه صلى الله عليه وعلى آله وعلى آله وأصحابه ومن تبعه في هديه وسلم تسليما كثيرا

المقومات الحسان.. في اختيار الأصحاب والخلان

المصدر : الشبكة الإسلامية

لا يستغني عاقل في حياته عن مصادقة ومصاحبة أو مؤاخاة ومخاللة، وقد عُرفت الصداقة منذ القدم، وكتب عنها كل ذي رأي وقلم، وأعلن عن أهميتها كل ذي فكر.
فمما رسخ عند الخاصة والعامة أن الصاحب ساحب، ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
وقال بعض الشعراء:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه .. فكل قرين بالمقارن يقتدي
وأثر الصحبة لا ينتهي في الدنيا، وإنما هو مستمر في الآخرة... بهذا نطق الكتاب والسنة، قال تعالى: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} فهذا في الصالحة.. وفي الصحبة الأخرى قال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا}.
فإذا كان للصداقة والصحبة كل هذه الأهمية وذاك الأثر، كان حريا بالعاقل أن يولي الاختيار أولى همه.
والسؤال: هو كيف يختار الإنسان صاحبه؟
والجواب: هو أن تجيب أولا عن هذا السؤال: لماذا تريد الصديق؟..
فإن مرادك منه هو الذي سيحدد كيفية اختياره؛ فإن الصحبة وصفات الصاحب تختلف باختلاف الغرض منها، والأصدقاء أنواع وأقسام ـ كما قال المأمون: "الإخوان على ثلاث طبقات: فإخوان كالغذاء لا يستغنى عنهم أبدا، وهم إخوان الصّفاء، وإخوان كالدواء يحتاج إليهم في بعض الأوقات، وهم الفقهاء، وإخوان كالدّاء لا يحتاج إليهم أبدا، وهم أهل الملق والنفاق لا خير فيهم".
فعلى حسب مرادك من الصديق تتحدد معالم اختباره واختياره.. فصاحب الدنيا ليس كصاحب الآخرة، وصديق المرح ليس كصديق السفر، وزميل الدراسة ليس كزميل العمل، وصاحب السعة ليس كمن يعد لوقت الحاجة والضيق.
مقومات أساسية
على أن كل صديق مهما كان سبب صحبته أو علة صداقته لا بد وأن تتوفر فيه أمور:
1- الدين:
وقد جاء بذلك الحديث الشريف الذي رواه احمد وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه سمع سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي].
فلابد أن يكون الصديق ذا دين وتقى؛ لأن مخالطة غير التقي تخل بالدين، وتنقص المروءة، وتوقع في الشبه والمحظور، ولا تخلو عن فساد بمتابعة فعل، أو غض طرف عن منكر، ثم هي مدعاة للتشبه فإن الطباع سراقة والجبلة تحمل على الاقتداء والتأسي، وهذا شيء معلوم بالضرورة .. حتى قال بعضهم: "ما شيء أسرع من فساد رجل وصلاحه من صاحبه، ويظن بالمرء ما يظن بقرينه".
وقال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه .. .. فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم .. .. ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
والمؤمن يزينك ولا يشينك، وينصحك ولا يخدعك، ويصارحك ولا يداهنك، وينصرك ولا يخذلك، ويخشى على دينك كما يخشى على دين نفسه، ويحب لك ما يحب لنفسه، فصاحب الدين عدة عند البلاء، وزينة عند الرخاء، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
2- العقل:
فإن العقل الموفور يهدي إلى مراشد الأمور، ومعاداة العاقل خير من مصادقة الأحمق، فإنه من حمقه .. ربما أراد نفعا فأضر.. قال علي: لا تصحب الأحمق فإنه يجهد نفسه لك ولا ينفعك، وربما ضرك من حيث أراد نفعك، سكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وموته خير من حياته.
وفي النهاية لا تثبت مع الحمق مودة، ولا تدوم لصاحبه معه صحبة.
قال بعض الشعراء:
المرء يجمع والزمان يفرق .. .. ويظل يرقع والخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلا خير له .. .. من أن يكون له صديق أحمق
فاربأ بنفسك أن تصاحب أحمقا ..إن الصديق على الصديق مصدق.
وفي قصة الدب الذي قتل صاحبه ما ينهى عن طلب الصداقة، عند أولي الحماقة، إذ كان فعل الدب هذا لفرط حب.
وإن العقل ليس له إذا ما .. .. تفاضلت الفضائل من كفاء.

3- الصدق:
ويراد به صدق المودة كما يراد به صدق الحديث، وأعني به هنا الثاني، فإنه لازم لكل صداقة عظمت أو جلت، وطالت أم قصرت، فإن الكذاب مثل السراب، يلمع ولا ينفع، يقرب البعيد، ويبعد القريب..
ومن كلام الأدباء العلماء النجباء
لم ير في القبائح .. وجملة الفضائح
كالكذب أوهى سببا ولا أضل مذهبا
ولا أعز طالبا ولا أذل صاحبا
وقد خطب أبو بكر يوما فقال: "ألا إن الصدق و البر في الجنة، ألا إن الكذب والفجور في النار"... وأحسن من كل هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا].

4- الإنصاف:
وهو من أعز أخلاق البشر على جلالته، وأقلها وجودا مع عظم الحاجة إليه وأهميته، وهو خلق لا زم في كل صحبة، لأن الصداقة قد تنفصم عراها، أو يصيبها من الأحداث ما يعكر صفوها، فيأتي دور الإنصاف ليرتق منها ما انفتق، فالإنصاف يحمل على العدل عند الائتلاف والاختلاف... وقد روى البزار عن نبينا المختار: [ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم، والإنصاف من نفسه]. وهذا أعز الإنصاف.. قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا}.
وصاحب الإنصاف إذا وافق وأحب لم يكذب ولم يداهن، وإذا خالف وأبغض لم يظلم في حكم ولم يفجر في خصومة.. فهو نافع في كل وقت. وأما غير المنصف فكما قال الشاعر:
وإخوان حسبتهم دروعا .. فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات .. فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب .. لقد صدقوا ولكن عن ودادي.
5- الرغبة في صحبتك:
والرضا بصداقتك، والغبطة من محبتك، فإن محبة من لا يحبك حماقة، وطلب الود عند من لا يودك طعن في عقلك... فمثل هذا لا تقوم به صحبة، ولا تستمر معه صداقة ولا مودة.
ومن الشقاوة أن تحب .. ومن تحب يحب غيرك
أو أن تسير لوصل من .. لا يشتهي للوصل سيرك
أو أن تريد الخير للـ .. إنسان وهو يريد ضيرك
سيـان إن أولـيته .. خيرا وإن أمسكت خيرك.
6- حسن الخلق:
والمقصود هنا عموم مكارم الأخلاق بعد أن خصصنا المهم في رأينا، فلابد أن يكون الصديق محمود الأخلاق مرضي الأفعال، مؤثرا للخير آمرا به، كارها للشر ناهيا عنه؛ فإن مودة الشرير تكسب الأعداء وتفسد الأخلاق، ولا خير في مودة تجلب عداوة وتورث مذمة، والسيئ الخلق الناس منه في بلاء، ونفسه منه في عناء.
قال ابن المعتز: إخوان الشر كشجر النارنج يحرق بعضها بعضا.. وقال غيره: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، ومن خير الاختيار صحبة الأخيار، ومن شر الاختيار صحبة الأشرار، ولا شيء أضيع من مودة من لا وفاء له واصطناع المعروف عند من لا شكر له.
احــذر مودة مـــاذق .... شاب المرارة بالحلاوة
يحصي الذنوب عليك أيـ .. ـام الصداقة للعداوة
7 ـ المشاكلة والموافقة:
وثمة أمر آخر غاية في الأهمية.. ألا وهو
فلما كان الناس مختلفين في عقولهم وطبائعهم وأخلاقهم وأهدافهم كان لابد لمن أراد أن يصاحب أن يتلمس من يناسبه ويشاكله؛ فإن التجانس أصل الإخاء وقاعدة الائتلاف، يزيد بزيادته وينقص بنقصانه ـ كما قال الماوردي رحمه الله.. ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: [الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف].
والصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب، إن لم تكن منه شانته.
وما صاحب الإنسان إلا كرقعة .. على ثوبه فليتخذه مشاكلا
وقيل أيضا:
ولا يصحب الإنسان إلا نظيره .. وإن لم يكونا من قبيل ولا بلد
فإذا أردت أن تصطفي من الناس خلا، فاصحب من توفر فيه ما سبق، فإن زاد حسنا فليكن ما نصح به علقمة بن لبيد العطاردي ابنه فقال: "يابني إن عرضت لك في صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإن قعد بك الزمان مانك، اصحب من إذا مددت يدك بفضل مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى سيئة سترها، أو خلة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك وإذا سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإن حاولت أمرا آمرك، وإن تنازعتما يوما آثرك".
فإن حصلت هذا فاشدد يديك به، وإلا فقل على الصحبة السلام.