الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أرسله بالعلم النافع والعمل الصالح ليظهره على الدين كله وأعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر شهادة له بصدقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وملكه وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بلغ ما أنزل إليه من ربه على أكمل وجه وأتمه صلى الله عليه وعلى آله وعلى آله وأصحابه ومن تبعه في هديه وسلم تسليما كثيرا

يطلع عليكم رجل من أهل الجنة


كتاب يطلع عليكم رجل من أهل الجنة
إعداد:- إبراهيم بن علي الحدادي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:
فكلنا ذلك الرجل الذي يحب أن يبشر بالجنة والرحمة والرضوان من الله تعالى – نسأل الله الجنة – وكلنا يطمع في دخول الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض... ولكن هذه الجنة تنال برحمة الله تعالى ثم بالأعمال الصالحة.
وفي هذه الأسطر ذكر لعمل قلبي يوصل للجنة ويدخل في رحمة الله تعالى، ذلك العمل الذي لا يطيقه إلا من صفت قلوبهم وتعلقت بخالقها، فتعال أخي الكريم لنستمع إلى الصحابي الجليل وهو يروي لنا قصة ذلك الرجل الذي قاده هذا العمل إلى أن يكون من أهل الجنة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع الرسول صلي الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال فلما كان الغد قال النبي صلي الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلي الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلمَّا قام النبي صلي الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، فقال: نعم قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرار يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟
فقال: ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.
فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق [رواه الإمام أحمد].
الله أكبر يا لها من صدور طاهرة صافية نقية، لا تحمل حقدًا، ولا تعرف حسدًا، ولا تكن غلاً تلك القلوب التي لم تستطع أن تكون في صدورنا مثلها إلا من رحم ربك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فقول عبد الله بن عمرو له هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد) [مجموع الفتاوى 10 - 119].
أخي الكريم: إن لسليم الصدر مكانة عظيمة ومنزلة عالية فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق»، ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد قيل: فمن على أثره؟ قال «الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة» قيل: فمن على أثره؟ قال «مؤمن في خلق حسن» [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
سليم الصدر يحوز حسنات كثيرة ولو كان عمله قليلاً، فعن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا (يعني الصحابة) قال: كانوا يعملون يسيرا ويؤجرون كثيرا، قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم.
أيها المسلم: الحسد مانع عن الحق وصاد عن تلقيه فما منع أهل الكفر عن قبول دعوة الحق إلا أن قالوا: "أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا" [الأنعام: 53] "وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" [الزخرف: 31].
الحسد آكل للحسنات جالب للسيئات، قال صلي الله عليه وسلم: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» [رواه ابن ماجه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال: العشب» [رواه أبو داود].
الحسد سبب لغضب الله ولعنته، فهذا إبليس لما حسد أبانا آدم عليه السلام على ما آتاه الله، لعنه الله وطرده والحسد دعا ابن آدم إلى قتل أخيه قال تعالى: "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [المائدة: 30].
والحسد يعد ركنا من أركان الكفر، قال ابن القيم رحمه الله: أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة، فالكبر يمنعه الانقياد والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة.
والحسد من أهم الأسلحة التي يستخدمها ويوصي بها الشيطان جنوده لزرع العداوات، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال إبليس لجنوده ألقوا بين الناس التحاسد والبغي فإنهما يعدلان الشرك [بهجة المجالس 1/409].
والحاسد معاد لنعم الله تعالى معترض على ما منَّ به على خلقه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تعادوا نعم الله عز وجل؛ ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله.
ألا من كان لي حاسدا


أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه


لأنك لم ترض لي ما وهب

وقال بعض الحكماء: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلا، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وغضبًا، ولا ينالُ من الخلق إلا جزعًا وغمًا، ولا ينال عند النزع إلا شدةٌ وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً.
فيا أخي:
الحقد داءٌ دفين ليس يحمله


إلا جهول ملئ النفس بالعلل


مالي وللحقد يشقيني وأحمله


إني إذن لغبي فاقد الحيل

سلامة الصدر أهنأ لي وأرحب لي


ومركب المجد أحلى لي من الزلل

إن نمت قرير العين، ناعمها


وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي

وأمتطي لمراقي المجد مركبتي


لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي

أمور تعين على سلامة الصدر:
من أهمها ما يلي:
1 - يعرف العبد خطورة هذا الداء فهو مقس للقلوب مشتت للشمل زارع للعداوات والبغضاء بين المسلمين، وقد سبق ذكر شيء من آثاره الوخيمة فيما سبق من أسطر.
2 - يتعرف على أحوال من سلمت قلوبهم وعلى رأسهم رسول الهدى صلي الله عليه وسلم، يكذبه قومه ويضربوه ويفترون عليه ومع ذلك يقول: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» [متفق عليه].
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلي الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلي الله عليه وسلم وقد اثر بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء [متفق عليه].
·  فهذا رسول الهدى والرحمة لا يرد على هذا الأعرابي إلا بالضحك الناتج عن سلامة الصدر وصفائه من كل شوائب الحقد والغل والحسد.
·  وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إني لأمر على الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم.
·  ويضرب لنا أبو ضمضم أروع الأمثلة فكان يقول إذا أصبح: (اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي صلي الله عليه وسلم «من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم» قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه [تهذيب مدارج السالكين 407].
·      وكان الإمام الشافعي يقول: (وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي منه شيء) [صفة الصفوة 2/ 251].
·  الإيثار وعدم الشح، فقد امتدح الله تعالى أهل الإيمان فقال: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الحشر: 9].
·      التجاوز عن الهفوات والزلات وعدم تتبعها، وإساءة الظن بها، فالواجب العفو والصفح عنها.
لما عفوت ولم أحقد على أحد




أرحت نفسي من هم العداوات


والواجب على المسلم كذلك: إحسان الظن وحمل الأمور على المحمل الحسن وإيجاد الأعذار، والمسلم مأمور بالبعد عن إساءة الظن قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ" [الحجرات: 12].
إفشاء السلام فهو طريق المحبة بين المسلمين قال صلي الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» [رواه مسلم].
قد يمكث الناس دهرًا ليس بينهم


ود فيزرعه التسلم واللطف

5 - الهدية: فالهدية لما أثر عظيم في صفاء النفوس وجلب المحبة والتآلف فقد قال صلي الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا» [حسنه الألباني].
هدايا الناس بعضهم لبعض


تولد في قلوبهم الوصالا

وتزرع في الضمير هوى وودا


وتكسوهم إذا حضروا جمالا

6 - الحذر من هجر المسلم والتقاطع والتدابر، فقد قال صلي الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» وقال صلي الله عليه وسلم «لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» [رواهما البخاري ومسلم].
7 - البعد عن الجدل والمراء، لما يترتب عليه من إيغال الصدور، وبث المشاحنات والعداوات وحب الانتصار للنفس، وتذكر قول الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا».
8 - إشغال النفس بذكر الله تعالى، وما تستطيعه من أنواع الطاعات، وعدم ترك النفس بلا شغل، فإنك إن لم تشغلها بالطاعة شُغلت بالمعصية.
9 - اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع بين يديه بأن يصلح قلبك ويسلم صدرك من نزغات الشيطان، ويجعله صدرًا سليمًا لا يحمل غلاً ولا حسدًا لأحد. ومن ذلك أن يقول العبد: «واسلل سخيمة قلبي» [صحيح أبي داود],.
10 - اجتناب الأسباب المؤدية للحسد وإغارة الصدور ومن أهمها:
* ضعف الإيمان بالله تعالى والصلة به، وعدم الرضا بقضائه وقدره وما قسمه للعبد.
* حب الدنيا والتنافس على نعيمها وزخارفها الزائلة، قال الحسن البصري رحمه الله: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره".
* حب الظهور والعلو على الغير، وحب الرياسة وطلب الجاه والمدح من الناس.
* الكبر، والإعجاب بالنفس في الحديث: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» [السلسلة الصحيحة (1802)].
* الظن السيئ بالمسلمين، وهجرهم، وإشغال النفس بالكلام فيهم وذكر عيوبهم...
فيا أيها المسلم كن سليم الصدر فإنه ينفعك في يوم أنت أحوج ما تكون إليه، هناك: "يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم" [الشعراء: 88 - 89]